
في عام 1978، وبعد اجتياح إسرائيلي محدود للجنوب عُرف بـ«عملية الليطاني»، لعبت واشنطن دوراً مركزياً في صياغة القرار 425 الصادر عن مجلس الأمن. القرار دعا إلى انسحاب فوري وغير مشروط لجيش العدو من الأراضي اللبنانية، وإنشاء قوة الطوارئ الدولية (اليونيفيل). لكن الانسحاب الذي حصل كان شكلياً، إذ أبقت تل أبيب على «منطقة عازلة» عبر جيش أنطوان لحد، لتتحول هذه المنطقة إلى قاعدة متقدمة للاحتلال.
واشنطن من جانبها لم تمارس أي ضغط حقيقي لإتمام الانسحاب الكامل، ولم تحمِ لبنان من الخروقات الجوية والبرية التي تواصلت لسنوات. كان ذلك أول اختبار حقيقي للوعود الأميركية، وأول فشل في ترجمتها.
في حزيران 1982، اجتاحت إسرائيل لبنان وصولاً إلى بيروت. حصل ذلك رغم تأكيدات أميركية مسبقة للدولة اللبنانية. وجاء المبعوث الأميركي، فيليب حبيب، في السابع والعشرين من شباط، برسالة من الرئيس الأميركي آنذاك إلى نظيره اللبناني يطمئنه فيها بأن العدو لن يجتاح الجنوب.
حبيب قاد حينها مفاوضات تهدف إلى خروج قوات منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت إلى تونس واليمن. في المقابل، قدّمت واشنطن ضمانات بحماية المدنيين في بيروت الغربية. غير أنّ ما تلا الانسحاب شكّل واحدة من أبشع المحطات، مجزرة صبرا وشاتيلا في أيلول 1982 على يد ميليشيات لبنانية متحالفة مع الاحتلال، دمار واسع في العاصمة والقرى الجنوبية، آلاف الشهداء والجرحى، فيما اكتفت القوات الأميركية بالمراقبة. لم تتدخل واشنطن، ولم تفِ بتعهداتها، ما كرّس صورة الانحياز الأميركي الفاضح إلى إسرائيل على حساب دماء اللبنانيين والفلسطينيين.
خلافاً للقرارات الدولية والضغوط الأميركية، جاء يوم التحرير في 25 أيار 2000 ليشكّل استثناءً فرضته المقاومة، لا الديبلوماسية. بعد حملة استنزاف طويلة نفذها حزب الله ضد مواقع الاحتلال في الجنوب، ورفض الأهالي الانصياع لسلطة جيش لبنان الجنوبي، اضطرت إسرائيل إلى الانسحاب السريع وغير المنظم من معظم الجنوب من دون تفاوض أو شروط مسبقة. واشنطن لم تلعب أي دور فعلي في هذا الانسحاب، بل عادت لتطرح بعده ضمانات جديدة بحماية الحدود لم تتحقق يوماً، لتبقى الخروقات الجوية والاعتداءات جزءاً من المشهد اليومي. فما أثبته التحرير هو أنّ الضمانة الوحيدة الفعلية كانت فعل المقاومة وصمود الجنوبيين.
في تموز 2006، وبعد عدوان واسع شنّه العدو الإسرائيلي على لبنان، صدر القرار 1701 عن مجلس الأمن برعاية أميركية ــ فرنسية. القرار تضمّن تعهدات بوقف الأعمال الحربية واحترام الخط الأزرق، ونصّ على تعزيز وجود «اليونيفيل». لكنّ الضمانات التي قُدّمت لم تُطبّق، إسرائيل واصلت خروقاتها البرية والجوية، وعملياتها الأمنية في الداخل اللبناني لم تتوقف. في المقابل، كان سلاح المقاومة هو الضامن الوحيد لمنع تجدد الاجتياح البري، بعدما عجزت كل الضمانات الدولية عن حماية السيادة.
أعاد عام 2024 إنتاج الصورة نفسها. الموفد الأميركي آموس هوكشتاين رعى اتفاقاً لوقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل. الاتفاق نصّ على انسحاب قوات الاحتلال من المناطق التي تقدّمت إليها خلال العدوان، وتراجع حزب الله شمالي الليطاني ضمن مهلة 60 يوماً، وبنود أخرى. المقاومة التزمت بالكامل ببنود الاتفاق، لكن إسرائيل لم تنسحب من الأراضي المحتلة ولم توقف عدوانها، كما لم تطلق سراح الأسرى اللبنانيين.
إقرأ أيضاً: حسين الأمين | على ماذا وافق لبنان وماذا تقول البنود صراحة؟
من المبعوث الأميركي 1982، فيليب حبيب وصولاً إلى آموس هوكشتاين، ومورغان أورتاغوس وتوم برّاك، هذه الأسماء التي تتبدل تبقى وجهاً واحداً لخطر واحد لا يدركه كثيرون في لبنان، معتبرين أن أميركا تنظر إلى لبنان نظرة «صديق»، إلا أنها تنظر إليه «نظرة حيوانية» وعدوانية، وهذا ما جاء بشكل واضح على لسان توم برّاك من قصر بعبدا.
مساعي واشنطن مع بعبدا وبيروت نجحت في تكريس صيغة جديدة لاتفاق وقف إطلاق النار، شرطه الأول نزع سلاح حزب الله. الفارق هذه المرة أن الأميركيين يرفضون تقديم أي ضمانات أمنية أو سياسية للبنان، مكتفين بوعود اقتصادية عن الازدهار وإعادة الإعمار.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه: ما الذي يضمن سلامة الجنوب إذا سُلّم السلاح؟ وأي ضمانة تبقى بعد سجل طويل من الوعود الفاشلة؟ أليس المثل الشعبي «يلي بيجرب مجرّب بيكون عقلو مخرّب» أصدق تعبير عن هذه اللحظة؟
في كل المحطات، بدا دور واشنطن أقرب إلى إدارة النزاع منه إلى حله. القرار 425 لم يُطبّق بالكامل، الضمانات في 1982 انتهت بمجزرة، القرار 1701 لم يمنع الخروقات، اتفاق 2024 لم يطبّق وكان الأسوأ مع عودة جنوب لبنان إلى زمن الاحتلال. الثابت الوحيد أن الولايات المتحدة تعمل على حماية أمن إسرائيل أولاً، فيما لبنان يظل الحلقة الأضعف. حتى حين تدعو واشنطن إلى الاستقرار، فإن المقصود هو استقرار (الجبهة الشمالية لإسرائيل)، لا حماية لبنان أو ضمان سيادته.
منذ عام 1978 حتى اليوم، مرّت على لبنان عشرات الوعود الأميركية، انسحابات، حماية مدنيين، ضمانات أممية. لم تُنفّذ أيّ منها بشكل كامل. في المقابل، كل إنجاز تحقّق على الأرض جاء بفعل المقاومة وصمود اللبنانيين، لا بفضل الديبلوماسية الأميركية. أمام هذا السجل الحافل بالخداع الأميركي، لماذا على لبنان أن يثق هذه المرة؟